الجريمة المنظمة
دفعني الفضول لأوجه دفة البحث إلى أوروبا والدول المتقدمة، منبع المحتوى التوعوي للآباء والأبناء. طفحت الشبكة العنكبوتية في وجهي بكم هائل من القضايا والحالات. توقفت من بينها عند قضية روثيرهام التي شهدتها بريطانيا. في هذه المقاطعة البريطانية، استطاعت عصابة منظمة استدراج قصر تراوحت أعمارهن بين 11 و16 عامًا، أغلبهم ينتمون لأسر فقيرة أو يقيمون بدور رعاية.
تعرض هؤلاء الضحايا لاغتصاب متكرر، بالرغم من تقدم بعضهم بالشكوى، لم تتعامل السلطات المعنية مع شكاويهن بجدية لائقة بسبب أعمارهن الصغيرة وتواضع مستواهم الاجتماعي. بدأت هذه المأساة في عام 1997، وظلت مستمرة لسنوات لم يحرك فيها أحد ساكنًا، حتى نشرت The Times تحقيقًا استقصائيًا عن الموضوع أجبر السلطات على إعادة التحقيق، ليكتشف البريطانيون أن الفترة ما بين 1997 حتى 2013 شهدت تعرض قرابة 1400 طفل للاستغلال الجنسي على يد هذه العصابات التي تنفذ أعمالها الدنيئة بشكل مخطط وغير عشوائي.
موجات الغضب والصدمة التي فجرها هذا التحقيق ترتب عليها موجات من الإصلاح التشريعي، ألغت سقوط هذه النوعية من القضايا بالتقادم، ثم، وهو التعديل الأهم الذي من أجله عرضت هذه القضية بالذات، أصبح القانون يأخذ في الاعتبار عامل (الاستدراج والتسهيل) Grooming، الذي يغلظ العقوبة على الجاني المباشر وكل من يسهل له جريمته. فالقاضي هنا ملزم في التفريق بين عقوبة من يرتكب الجريمة بشكل عشوائي وبين من يخطط لها وينفذها بمعاونة آخرين.
من سيحمل الدرع والسيف
هذه المشاهد ليست بعيدة عما نعايشه في مصر، وأزعم أنه بكل تأكيد شهدت هذه البلدان بعد انكشاف هذه الفواجع استنكارًا وذهولًا يرافقه فيض مكثف من الرسائل التعليمية والتحذيرية للأهل عن كيفية توعية أطفالهم وتدريبهم على حماية أنفسهم، لكن الأمر لم يتوقف أبدًا عند هذا الحد، ولم تكتفِ هذه المجتمعات بردود فعل حماسية مؤقتة، وإنما انتفضت تشريعياً لتتسلح الدولة بما يمكنها من أداء دورها في حماية الأطفال وردع كل من ينتهك البراءة، دون حديث ساذج عن توعية يفترض بها أن تحول ملاكًا صغيرًا إلى محارب يحمل درعًا وسيفًا في وجه ذئاب ماكرة.
التطور الرهيب في عالم الجريمة أكبر من قدراتنا كأفراد، أكبر من أي توعية يمكن أن يتلقاها صغير ما زال يخطو خطواته الأولى في هذه الدنيا. سنتعلم عن التربية الجنسية وسنظل نقدم لأطفالنا محتوى تعليمي تحذيري، لأن هذا ما علينا أن نفعله، ولأن هذا سيحميهم بطرق أخرى، لكن تأكد من بناء الأسقف والجدران أولًا، ثم اشرع في ترتيب الداخل وليس العكس.
إن الاعتماد على الجهد التوعوي فقط، مع أهميته، واستسهال إلقاء اللوم على الأهالي أو الطفل، هو نوع من العبث والاستهتار بهول ما نواجهه. فأنت في بيتك محمي بسقفك وجدرانك، يصيبك الهلع من مجرد متابعة هذه الجرائم عبر شاشات صغيرة أو كبيرة، فما بالك بهذه الأجساد الهشة والأرواح الملائكية حين ينفرد بها وحش يكشر عن أنيابه؟
في بعض الجرائم المروعة التي شهدناها في الشهور الأخيرة، تمكن بعض المتواطئين من الهرب من المساءلة القانونية بسبب قصور في القوانين والتشريعات. «هل تعلم أين ذهبت مديرة مدرسة الكرمة؟»
بالأمس القريب فقدت صغيرة حياتها بعد اغتصابها في مسبح، لمجرد أن والدتها غابت عنها لدقائق انشغلت فيها بدخول الحمام مع أختها الصغرى، مرتكب الجريمة لم يبلغ 18 بعد، وهو ما يعني أنه سيحاكم كقاصر ليخرج من السجن بعد عشر سنوات، لا يوجد بعدها ما يمنعه من الاندساس بين أبنائنا.
هل حقا ما زالوا فتية؟
مع انتشار أغاني البورنو السوقية، التي قد يفرض عليك حظك العسر أن تسمعها بالإكراه من مراهق يقود توك توك أو سائق ميكروباص متبجح، وسهولة الوصول لمحتوى يروج لممارسات جنسية منحرفة، أنت بكل أسف أمام فتية متحفزون ومشحونون جنسيًا.
هؤلاء ما زالوا في عرف القانون قصر، وهو ما يكفل لهم حقوقًا نعرفها جميعًا، لكنه من جانب آخر يهدر حق المجتمع في الأمن وفي القصاص العادل. فهل نعطي الأولوية لحقهم في العلاج والإصلاح أم لحق المجتمع في الأمن والأمان؟؟؟؟
مرة أخرى نعود إلى التشريع لنجد بعض جيراننا الكونيين مثل الهند تسمح بمحاكمة القاصر المتهم في جريمة اغتصاب كبالغ بعد تقييم من مجلس خاص، وهو ما يحترم خصوصية كل واقعة ولا يهدر حق المجتمع الذي يتغير بشكل غير مسبوق.
عندما تستوجب الارقام تحركا!
سأختم معك هذا الحديث بتقرير أصدرته اليونيسيف توقفت عند اسمه، فقد نشر بعنوان When Numbers Demand Action أو عندما تستوجب الأرقام تحركًا! يشير التقرير، الذي اعتمد على مسوح وطنية في أكثر من 120 دولة، إلى أن واحدًا من كل سبعة ذكور يتعرض لشكل من أشكال العنف الجنسي التلامسي في الطفولة، وبالطبع تزيد النسبة قليلاً في الإناث.
حقًا، هذا هو الوقت الذي تستوجب فيه الأرقام التحرّك، ليس فقط تحرّك الآباء والأمهات، الذين يقدّمون الكثير بالفعل لتربية وحماية وتوعية الأبناء في هذا العالم القاسي.
في كل مرة نسمع فيها عن مدرسة أو حضانة تُعرَّض فيها أبناؤنا لانتهاك قد يتعايشون مع ظلّه الثقيل ما بقي من عمرهم، نحتاج، قبل أن نحمل أهالي الضحايا مسؤولية عدم توعية أطفالهم، أن نسأل: هل سددنا الثغرات التي تتسلّل منها هذه الأفاعي اللئيمة؟ هل وضعنا قوانين تأتي برقاب الجناة ومن يتعاون معهم أو يتستّر عليهم؟ أم سنظل في كل مرة نكتفي بالصدمة والاستنكار وردود الفعل الوقتية؟؟
هذا سؤال موجّه لمؤسسات الدولة، التي لا يمكن أن تترك هذه المسؤولية معلّقة بشكل فردي في عنق كل أب وأم، ونظرة سريعة لجيراننا الكونيين تؤكّد، بما لا يدع مجالًا للشك، أن ما يحدث حقًا يستدعي التحرّك، فهل من مجيب!!